عَلى طَاولتِك الخشبيّة توجدُ أوراقٌ ناصعة البيَاض، وأخرى باليَة، عليهَا رموزٌ وخربشَات، حُروفٌ وعبارات لَن يَتقِن أحدٌ غيرَك فكّ طلاسِمها واستنبَاط معَانِيها، وحدكَ من سرحت بأفكارِك بينَ سُطورها؛ كأن تجدَ نفسكَ ومن قاسَمتك الأيسَر المحمومَ هناكَ جالِسينِ ﻋﻠﻰ ﺻﺨﺮﺓٍ ﻳﺴﺘﻮﻱ ﻧﺼﻔُﻬﺎ ﻭﻳﺘﻌﺮﺝُ نِصفُها ﺍﻵﺧﺮ، في تراصٍ فوضَويّ يضفِي سحرًا عفويًا، وتناغُمًا ربّانيا على جانِب ذلكَ البحرِ الذّي يبعُدك آلاف الأميَال ويقرَبها ربّما، أو يبعدُكما كليكُمَا.
إنّه هادئٌ هذا المَساء، كهدوئكُما الذي جيئ بعدَ عواصِف الشوقِ والهوس العاصِف الصّرصر الذِي جعلَ نبضكمَا في يومٍ مَا يصطكّ من شدّته، لترتعِد فرائصُكما من البعد.
ﺍﻟﻘﻤﺮُ مكتَملٌ كمَا أردتَه يومًا، ناصع البياض كوجهِ حبيبَتك، واضحَ النتوءات كَحزنٍ مالبثَ أن استوطنَكما مَعًا، فحفرَ بخدوشَه فيكُما مثلَه، هذا لايُثنِي صفاء صورتِه على سطحِ موجٍ هادئٍ عكسَ صورتيكُما معًا، صورةٌ لاثنَين فرقت الأرضُ بينهما كلوحةٍ ربّانية أخرى قد رسمت بفوضَويّة وعَجَلٍ، بفعلِ قدرٍ أعرجٍ قلتُمَا فِيه أنكما صبرتُما، فاحتَسبتُماهُ ليومٍ آتٍ لا محالة، يومٌ تتخلّله أنوارُ الفرَج مثل الشمس التِي سَطعت من جانِب اللوحة !
تتصَاعدُ الأمواج وتتهاوى لتتمرّد على الصٌخور المتعانِقة، لتستَيقظ من هديرِ الموج الذي بلّلتك قطراتُه ساعة الارتِطام الرّائع من خَيالك الذي عانَقتَ فيهِ نصفَك، وما كنتَ يومًا بنصفٍ لولا سيرورةَ الفقد بواقِعك.
تستَيقظَ عند أول رسمةٍ رسمتها على ورقَتك لتجدَ أنّك قد غرقتَ أكثرَ ببحرٍ لا طاقةَ لك ببلوغِه ولا الابتعادِ عنه، إلى رسمة أخرَى تنقلُك لخيالٍ ثانٍ يخدّر واقعك، وكلّك؛ لترتقي فيهِ هناكَ، وحدك بجناحينِ لأعلى فترتَسمَ على شَفتيكَ ضحكةً تتوجّ انغامسك، ومحيّا مدلّلتك التِي أجلسَتها برموزِك وعلى جهةِ أيسرَك، جهةَ ضلعٍ ينزوي على فؤادك كما تلك الصخرةَ المنعرجة على الموج والمستوية لأجل التموضع المريح لهَا بجِانبك، وتموضُعها بفعل الخلقِ والتّكوينِ أيضًاَ بين ضُلوعك.
طِفلة قلبِك اللحظَة أنفاسُها متهدهدةٌ، عيونُها مشرئبة التّطلع نحو اللاشيئ، كالدعاء لحظةَ السّجود والتّرقب الحَثيثِ للاستِجابة، وَحدَها من كَانت تضربِ على قلبِها هُناك، ليهدَأ قلبك هَاهُنا، وَحدَها من كَانت أنفاسُها، نَبضَاتها، حرُوفها وحتّى رذاذ الملحِ الشّاكي بليَاليها يستَغفرُ لك لتخرُج من وحشتِك وقدرِك، حتّى غمامة فقدِك.
وَحدَها من تَقولُ لك الآن : أنظُر ! أنَا الآن مَعك كما كنتُ بغياهِب الاعتقال، التهجير، الزورق الهشّ المتلاطم بين هَذا الموج الهادئ اللحظَة معك، وحدَك من رأيتنِي وقتَها رغم سودَاويّة ما أحاطك، ومن حوّطك، ووحدِي من تَرانِي اللحظَة بفعلِ خيالِك انطِلاقًا من انكبابِك على طاولتِك؛ أنَا سجنُك وسجّانك، أنسُك واستئناسُك، منكَ وفيكَ ولكَ، ملكُك ومليكَة لك…
على وقعِ كلماتِها، وﻭﺍﻗﻊُ ﺍﻟﺠﻐﺮﺍﻓﻴﺎ الذي ﻳﻀﻊُ ﺑﻴﻨﻜﻤﺎ أميَالًا وبحرين وسبعُ دولٍ وسبعونَ ولاية. ﻭﻭﺍﻗﻊ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦِ الذي يَمنعُك من لِقاء من أحببتَ، وماكنتَ بمحبٍ لولا ما استَحببت، فحبّبته لمن لايُحِب ولم يحبّ يومٌا. وواقعُ السيّاسات المهجّنة، والحُدود والتّسميات كاللاجئ والمهجّر. وواقعُ القوانينِ والدّساتير والتّجنيس؛ كلّ هذا يتحكّم فيك ساعة الشغف إلا الخيال الذي ارتميتَ فيه، ورضيتَ بمراوَدته إيّاك.
ساعة الارتِطام الرّائع تلكَ بخيالك، والتي سَمحت لَها بِمُراودتك ستمهّد وتجيزُ لقاء محبُوبتك تلكَ فجرًا على شواطئ البحرِ الأبيض المتوسّط بلجج الفقد بواقِعك، لتتناولا غدائكُما بمطعمٍ ما بحارَات الشّام العَتيقة ظُهرًا، لتلتِقطا صورًا للذّكرى عندَ أهرامات الجيزة عصرًا، وتتوضآن مغرِبًا بالأقصى، لتسجُدان له على أذانِه عِشاءً. بخيالكُما فقط ستختِمان اللقاء بمقهى تُركي على وقعِ كلارينيت حسنو شلندرجي وأنتما تتبَادلان العِناق…
الخَيال فقط من يضمنُ لك كلّ هذَا، وأنتَ على طاولَتك الخشبيّة، رفقَة أوراقك البيضاء والباليَة برموزها التي استَطعت تفكيكَها من لَحظات، وحدهُ الحرّ من كلّ قيدٍ وواقع، المتمرّد على العادات والتّقاليد، القوانين المَسنونة والنّواميس، ووحدَك المُتحكّم فيه لا المتحَكّم فيك، وحدَه من تلقى فيه من تُحب، كيفَما تحِب ومتَى شئت، لا تكرَّه فيه ولن تُكره على شيئ.
الخَيال هو عَالَمك الصّادق الذي لن تَشوبَه سودَاويّة الوَاقع المرهون بينَ جنباتِه كلّ ما أردت يومًا، وحده من تَستطيع أن تخلق فيه ما لم تستطع خَلقه بواقِعك، فيه تنفرمن كلّ قيد وكسر قد يعتريكَ فيفقِدك ويكسرُك.
فقط من طَاولتِك التي كنتَ تجلسُ فيها لوحدِك استطَعت أن تكون رفقَة محبُوبتك، تخيّلت كلّ لقيا قد طَال انتظارها ولم تاتِ فأتيتَ بها؛ هنيئًا لك عالمك الجديد