ومضة زمان ...


تلك العتمة.. وذلك الظل.. ونافذة صغيرة تُطل على الشارع المجاور.. تكاد الأجسام تختلط بالظلال.. والعالم ساكن سكون انتظار الحكم على شيء عظيم..
صمت… هدوء… سكينة… دقاتُ قلبٍ تنبض بعمق.. وأطياف تدخل مع الضوء الداخل من الخارج..
الداخل من عالم النور إلى قبو السواد..
لترسم في الظلام صورة العمر الذي مضى منه الكثير.. تنعكس على الجدار، كانعكاس فرحة النجاح على وجوه الناجحين..
ما هي؟ هل هي حقا مجرد ذكريات عابرة؟
لا..هي ليست كذلك.. هي انعكاس الماضي على صفحات المستقبل.. هي انعكاس الأحلام على عالم الواقع.. هي انعكاس الوحدة في الظلمة..
هي انعكاس الألم في الغربة..
(هي انعكاس الضوء على الجدار).. نظرة سريعة إلى ماضينا نجده حافلا بالحياة.. فرح.. محبة..نشاطٌ.. حيوية..شباب.. و نجده أيضا حافلا باللاحياة.. ألم.. حزن.. جراح.. هموم.. مشاكل.. فراق.. كلها تركت آثارا في ذاكرتنا.. أيام طويلة عشناها.. ضحكنا في بعضها وبكينا في بعضها.. ونسينا منها الكثير… نقف كل عام عند يوم نتذكر فيه ما مضى من هذا العمر.. لا نذكر سوى أننا كبرنا عاما جديدا… أصوات المياه الجارية في الشارع تشُقُ سكون الليل الذي اعتدنا سماعه…
وخيوط المطر تتدلى أمام ضوء في الشارع.. في منظر جميل.. وكأنها حفلة في العصور الوسطى.. فرحا بقدوم الربيع.. هي فقط تشعر الإنسان برغبة بالبكاء والوقوف عند ذكرياته.. أو تشعره بأنه يبحث عن شيء لا يجده.. لا يدري ما هو.. أو أين يجده.. تتداخل الصور.. وتمتزج الأصوات.. وتبهت الألوان.. وتتغير الملامح.. يمرُّ عمرنا كمرِّ السحاب.. وترحل أفكارنا التي نعيشها.. ولا يبقى لنا في هذه الدنيا سوى ذكريات لن تطول.. مرت الأيام كمر سحاب الصيف.. تلاشت ألوانها كألوان ورقة سقطت اواخر الخريف.. تحققت بعض أحلام الطفولة وأكثرها تناثرت بعد ان تحطمت على جدران الواقع المر.. ذبلت الذكريات كأزهار نرجس حزينة.. لم تبق منها سوى ذكرى.. سعيدة كإشراقة شمس دافئة.. ومؤلمة كلما بدت واقعا وحقيقة صعبة الوصول.. هي بعد جدارين من الأسمنت وثلاث أشجار صنوبر.. لكنها أبعد من الحدود المغلقة.. تمر أطيافها بصمت مهيب.. تلقي تحية غامضة.. وتولي مسرعة تاركة خلف كل بوابة ونافذة وجدار وكتاب صورة لها أو أكثر.. تهتز جنبات قلب عاش الذكرى يوما وكأنها حلم جميل..
يسرح الخيال بعيدا.. يسرح حيث تتلاشى القوانين والاحكام والأعراف والحقائق والمصاعب والمتاعب. يرسم حلمه بريشته.. ويعيشه بتفاصيله.. فتمتلأ روحه أملا وسعادة.. ينبض قلبه بعمق وشجون قبل ان يستيقظ تحت شجرة الصنوبر..
صوت بوم ينعى الرحيل.. غربان تتراقص على هوائيات المنازل.. أشخاص يضحكون.. وكثيرون يبكون.. الشمس تشرق كعادتها.. ويطول النهار..
ثم يحل الغروب.. منظر حزين جميل يعلن نهاية اليوم الذي مضى.. ويؤكد أن العمر الذي مضى لن يعود.. طال عمر الموتى.. وقصر عمر الأحياء..
رحل الغريب في وطنه.. ماضيه دفن في الثلوج والجبال.. وبقي في صفحات الكتب.. حاضره يجري بسرعة، يبحث عن الصورة الحقيقية بين المرايا.. ومستقبله خالد.. لا تمحوه الرياح الغربية ولا الشرقية.. ورحل في قطار بطيء تجرّه الخيول الغربية.. رحل إلى خاتمة الحكايات.. إلى ضوء رهين في أعين الخفافيش.. الماضي الذي كنا نجلس على أطلاله نرثي أنفسنا ونبكيه، هو ذا يرتسم في عالمنا وزمننا.. هو هو.. كما كان.. لم تتغير فيه إلا أشياء بسيطة.. تكسرت السيوف والرماح..تبدلت الملابس، وتغيرت الهيئة.. سكت الناس كثيرا .. اختبأت في أعينهم صورة تائهة خرجت من بين السطور. يبكي المسكين من الحزن.. يبكي الصغير من الألم.. ويبكي القوي من القهر..
ولا يبكي من لا قلب له.. بل يكتفي ببكاء الآخرين..
يزرع الشوك لـ “يحصد الأزهار”.. ويتمنى لو أن كل قوي أضعف منه.. عندما يموت غريب في وطنه لا تنتهي حكايته.. بل تموت حياته.. لتبدأ حياته التي لا تموت.. عندما يموت.. يمر طيفه فوق ناطحات السحاب.. يبتسم ويسير لا يتوقف.. يمر فوق الجبال والسهول والأنهار التي ودعها.. يبتسم بحزن.. ويسير.. يكتب حكايته بدمه المسفوح في شتاء غريب.. ” لا تبكي إذ ظُلمت.. لا تيأس إذا هزمت..
لا تفرح اذا انتصرت.. وابتسم في كل مرة تغيظ بها عدوّك”.. بعد أيام.. اشتد البرد.. والصمت.. ثقلت على الدنيا الجيف المتحركة.. تجمعت الغيوم فوق صلبانهم.. أمطرت السماء بغزارة.. أبرقت وأرعدت.. وأصحاب الجيف يضحكون.. حاضرهم يجري بهم إلى حتفهم.. مستقبلهم يجري بهم إلى حتفهم..
فالغريب لم يعد غريبا واحدا.. بل أصبح جبل الثلج كله غرباء


تم عمل هذا الموقع بواسطة