الجميع غادر البيت ، أولئك الشياطين الصغار الذين يحولونَ هذا المنزل إلى حلبة لصراعاتهم التافهة . أمي ، و حتى صديقي ذو الوجهِ التعيس المرابط أرتدى فضفاضةً جديدة ، و رشَ العطر على ثيابه . لقد ذهب الجميع إلى حفل الزفافِ ذاك..! ، و لم يبقى في البيتِ سِوايّ أو هذا القطِ الأسود الذي يكره الأمكان المكتظة ، و يبغضُ الضجيج مثلي..! . البيت في هدوءٍ تام ، التلفازُ مغلق . لا أصواتَ في المطبخ ، و لا في الصالة . كل شيء هنا يعلنُ أنني حر..! . حرُ في أن أقرأ كتاباً بصوتٍ مرتفع ، أو منخفض..! . حرُ في أن أغني أغنيتي المفضلة دون أن يقاطعني أحدهم ، في التدخينِ دون خوفٍ من أن أكونَ سباباً في إيذاء أحد..! . و أن أصرخ بملء صوتي : أنا حزين..!! ، دون أن يسألني أحدهم ما بك..؟! . حرُ من افتعال السعادة ، و حرُ في أن أبكي..! . لكني لم أفعل أي شيء من كل هذا ، ربما لأنني حر..!! . فتحتُ النافذة المطلّة على الجيران :
-أمي أين الملعقة..؟! . -مررها ليّ..! -سيدي - يا سيدي أين قميصي..؟! . أغلقتُ النافذة ، و صعدتُ الدرج متجاً إلى سطح المنزل . كان البدر شبهُ مكتمل ، و الهواء البارد الذي يخترق جسدي يأكدُ ليّ أنني حر..! . لم يعد هناك ما يقيدني عن الانتحار..! ، لكن لِما أفعل ذلك ففي الأخير لن يحزنَ أحد..! . -كنتُ أقولُ لنفسي..! . فتحتُ الهاتف ، و شغلتُ الموسيقى : << ناري ولهفة قلبي ، ليلي وسهري وحبي حتى جراحي وألمي وأسفي وندمي سلف ودين..! >> . كان الساحر جورج وسوف يحفزني على البكاء ، و الضحك في نفس الوقت..! . لم أكن أدرك أبداً أنني عاطفيّ إلى هذه الدرجة . و أن أغنية قديمة للجميل جورج . يمكنها أن تعيدني إلى زمن المبالاة بكل شيء ، بعد أن أتقنتُ اللامبالاة بكل أنواعها..! . لكن لا مانع من أن أبكي ، و أضحك . و حتى أنهُ يمكنني الرقص..! ، فأنا شخص مجنون . و مختلُ عقلياً ، لا تعنيه الحياة بقدر ما يهمهُ أن يعيش..! . أخرجتُ سيجارة من جيبي ، و شرعتُ في التدخين..! .
التدخين مضر بالصحة ، كما أنه يسبب أمراض القلب ، و سرطان الرئة..! -قالت بنتُ جيراننا التي بدا لي أنها كانت تراقبني دون أن ألحظ ذلك..! . صحيح أنني أعشق النساء إلى حدٍ بعيد ، و لا يمكنني حتى تخيّل هذا العالم بدونهم..! . أوووه حتى التفكير في الأمر يسبب جلطةً دماغية..! . لولا النساء لكنتُ انتحرتُ منذ أمدٍ بعيد ، إذ لا يمكن أن يمضي يومي دون أن أغازل إحداهنَ . أو أكذبُ عليها كذبة صغيرة ، مع أنهنَ أصبحنَ ، و للأسف يدركنَ أني شخص مصابُ بهِنَّ..! . و رغمّ كل ذلك فهذا لا يخول لتلك الحقيرة الحقَ في التنصّت عليّ..! . التفتُ بعد أن أنهيتُ الحديث مع نفسي . كانت بنتُ جيراننا العزيزة ، تجلسُ على حافة الحائطِ القصير فوق سطح منزلهم..! .
- عزيزتي ليس من الأخلاق أن نراقبَ الآخرين..! .
- و ليس منها أزعاجهم بالصراخ ، و الموسيقى الصاخبة . ردتْ الحقيرة..! .
-عفواً من أنتِ أصلاً لتحدثيني عن الأخلاق..؟! .
-بعض منَ الإحترام لا يقلل من رجولتك عزيزي..! .
-أووووف ، و تتحدثين عن الإحترام أيضا ، من منا كان يراقب الآخر..؟! .
-جميعنا فعلنا ذلك عزيزي ، أنا بِـ عينايّ.. و أنتَ بقلبك..! .
-لم أفهم ، عن أي قلبٍ تتحدثينَ أنتِ..؟! .
-عزيزي الحريةُ في الحزن تقتضي منا أن نعيش الحزن ، لا أن نوهم أنفسنا بأننا سعداء..! . و السعادة وليدة الحزن ، الذي تخشى مواجهةَ حقيقةِ أنكَ تريدُ التخلصَ منه..! .
-لحظة... لحظة..! ، و من قال لكِ أني حزين..؟! .
-ها ها ها..! ، عزيزي الذين تعودوا على الحزن . لا يخفى عليهم رفاق الحزن..! -هل أنتِ حزينة..؟! .
-ها ها ها ، بالله عليك.. ، من يُشعر بالسعادة في هذا البلدِ اللعين..؟! . سمعتُ صوت طرقات قوية على الباب..! .
-ما الأمر..؟! . سألتْ جارتي..! . - إنهم مفسدوا اللحظات السعيدة..! . - آه حسناً عزيزي إلى اللقاء . هممتُ بتقبيلِ تلك الحكيمة المزيّفة..! ، لكني لم أفعل..! . نزلتُ من على سطح المنزل ، و فتحتُ الباب..! . - سحقاً نحن نطرق الباب منذ ساعة هنا..! . قال صاحبي ذو الوجه الكئيب المرابط..! . لم أجبْ ، و اتجهتُ إلى غرفتي المتسخة . معلناً بذلك العودة إلى سجني البائس من جديد..! .